فصل: تفسير الآية رقم (116)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إِذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ إِني لقاعد إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ غشيَته السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال‏:‏ «اكتب» ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون‏}‏ الآية، فقام ابن أمِّ مكتوم، فقال‏:‏ يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد‏؟‏ فوالله ما قضى كلامَه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال‏:‏ اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏غيرَ أولي الضرر‏}‏ فألحقتها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏ يعني عن الجهاد، والمعنى‏:‏ أن المجاهد أفضل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وأُريد بهذا الجهاد غزوة بدر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ غزاة تبوك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة‏:‏ ‏{‏غيرُ‏}‏ برفع الرّاء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وخلف، والمفضل‏:‏ بنصبها‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من رفع الراء، جعل «غير» صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناءً من القاعدين‏.‏ وفي «الضرر» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العجز بالزّمانة والمرض، ونحوهما‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع‏.‏ وقال ابن جبير، وابن قتيبة‏:‏ هم أولو الزّمانة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الضرر‏:‏ أن يكون ضريراً أو أعمى أو زمناً‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة‏}‏ في هؤلاء القاعدين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والدرجة‏:‏ الفضيلة‏.‏ فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفضل الله المجاهدين على القاعدين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ القاعدون هاهنا‏:‏ غير أولي الضرر، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هم الذين لا عذر لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏درجات منه‏}‏ قال الزجاج‏:‏ درجات في موضع نصب بدلاً من قوله أجراً عظيماً، وهو مفسر للأجر‏.‏ وفي المراد بالدرجات قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها درجات الجنة، قال ابن مُحيريز‏:‏ الدرجات‏:‏ سبعون درجة ما بين كل درجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضَّمرِ سبعين سنة، وإِلى نحوه ذهب مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى الدرجات‏:‏ الفضائل، قاله سعيد بن جبير‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان يقال‏:‏ الإِسلام درجة، والهجرة في الإِسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ الدرجات‏:‏ هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا يقطعون وادياً إِلا كتب لهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 121‏]‏ فان قيل ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة‏.‏ والدرجات‏:‏ تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات‏:‏ منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن أناساً كانوا بمكة قد أقروا بالإِسلام، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى بدر لم تدع قريش أحداً إِلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإِسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نزلت في أناس تكلموا بالإِسلام فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن قوماً نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا‏:‏ غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وفي «التوّفي» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الحشر إِلى النار، قاله الحسن‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والمراد بالملائكة ملك الموت وحده‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة يَلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يَلون أرواح الكفّار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال، والمعنى‏:‏ تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم، والأصل‏.‏ ظالمين، لأن النون حذفت استخفافاً‏.‏ فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل على ما ذكر في قصّتهم أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ترك الهجرة،

والثاني‏:‏ رجوعهم إلى الكفر،

والثالث‏:‏ الشك بعد اليقين‏.‏

والرابع‏:‏ إِعانة المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيم كنتم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو سؤال توبيخ، والمعنى‏:‏ كنتم في المشركين أو في المسلمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا كنّا مستضعفين في الأرض‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كنا مقهورين في أرض مكة، لا نستطيع أن نذكر الإِيمان، قالت الملائكة‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة‏}‏ يعني المدينة ‏{‏فتهاجروا فيها‏}‏ يعني‏:‏ إليها‏.‏ وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا المستضعفين‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة‏:‏ هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية‏.‏ قاله مجاهد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله‏:‏ ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ قال أبو سليمان‏:‏ «المستضعفون» ذوو الأسنان، والنساء، والصبيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ولا على نفقةٍ، ولا قوّةٍ‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم لا يعرفون الطريق إِلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لا يعرفون طريقاً يتوجّهون إِليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد‏.‏ وفي «عسى» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى الإِيجاب، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ أنها بمعنى الترجّي‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم يرجون العفو، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً‏}‏ قال سعيد بنُ جبير، ومجاهد‏:‏ متزحزحاً عما يكره‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المراغم والمهاجر‏:‏ واحد، يقال‏:‏ راغمت وهاجرت، وأصله‏:‏ أن الرجل كان إِذا أسلم، خرج عن قومه مُراغِماً، أي‏:‏ مغاضِباً لهم، ومهاجِراً، أي‏:‏ مقاطِعاً من الهجران، فقيل للمذهب‏:‏ مراغم، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه‏.‏ ‏[‏قال الجعدي‏:‏ عزيزُ المراغَم والمذهب‏]‏‏.‏

وفي السّعة قولان أحدهما‏:‏ أنها السّعة في الرّزق، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ التمكّن من إِظهار الدين، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إِلى الله ورسوله‏}‏ اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجراً، فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريراً موسِراً، فقال‏:‏ احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره، فلما بلغ التنعيم، مات، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ابن ضمرة الجندعي مرض، فقال لبنيه، أخرجوني من مكة، فقد قتلني غمّها، فقالوا‏:‏ أين‏؟‏ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا، ذكره ابن إِسحاق‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو جُندب بن ضمرة‏.‏

والرابع‏:‏ أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله‏:‏ ‏{‏إِن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ إِلى قوله ‏{‏مراغماً كثيراً‏}‏ قال لأهله وهو مريض‏:‏ احملوني، فإني موسِر، ولي من المال ما يُبلغني إِلى المدينة، فلما جاوز الحرم، مات‏.‏ فنزل فيه هذا، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه رجل من بني كنانة هاجر، فمات في الطريق، فسخر منه قومُه، فقالوا‏:‏ لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد‏.‏

والسادس‏:‏ أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجراً، فمات في الطريق، ذكره الزبير بن بكّار، وقوله‏:‏ «وقع» معناه‏:‏ وجب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ روى مجاهد عن أبي عياش الزَّرقي قال‏:‏ كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، ‏[‏قال‏]‏‏:‏ فصلينا الظهر، فقال المشركون‏:‏ لقد أصبنا غِرّة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر‏.‏ والضرب في الأرض‏:‏ السفر، والجُناح‏:‏ الإِثم، والقصر‏:‏ النقص، والفتنة‏:‏ القتل‏.‏ وفي القصر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه القصر مِن عدد الركعات‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القصرُ من حدودها‏.‏ وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إِلا عند الخوف، وليس الأمر كذلك، وإِنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو‏.‏ وقيل‏:‏ إِن قوله ‏{‏أن تقصروا من الصلاة‏}‏ كلام تام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن خفتم‏}‏ كلامٌ مبتدأ، ومعناه‏:‏ وإِن خفتم‏.‏

واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ ليست مقصورة، وإِنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إِلا بوجود السفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إِذا لم يكن فيه خوفٌ تمام غير قصر، واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفّين، صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إِلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا‏.‏ وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مقصورةٌ، وليست بأصل، وهو قول مجاهد، وطاووس، وأحمد، والشافعي‏.‏ قال يعلى بن أميّة‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا، وإِنما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن خفتم‏}‏ فقال عمر‏:‏ عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏.‏

فصل

وإِنما يجوز للمسافر القصر إِذا كان سفرُهُ مُباحاً، وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز له القصر في سفر المعصية‏.‏ فأما مدة الإِقامة التي إِذا نواها أتم الصلاة، وإِن نوى أقلَّ منها، قصر، فقال أصحابنا‏:‏ إِقامة اثنين وعشرين صلاة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ خمسة عشر يوماً‏.‏ وقال مالك، والشافعي‏:‏ أربعة أيام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا كنتَ فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ سبب نزولها‏:‏ أن المشركين لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قد صلّوا الظهر، ندموا إِذْ لم يكبوا عليهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ دعوهم فإن لهم صلاة هي أحبُّ إِليهم من آبائِهم وأبنائِهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا إِلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا كنت فيهم‏}‏ خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدلُ على أن الحكم مقصورٌ عليه، فهو كقوله ‏{‏خذْ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا تجوزُ صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والهاء والميم مِن «فيهم» تعودُ على الضاربين في الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأقمت لهم الصلاة‏}‏ أي‏:‏ ابتدأتها، ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ أي‏:‏ لتقف‏.‏ ومثله ‏{‏وإِذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏وليأخذوا أسلحتهم‏}‏ فيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم الباقون، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير‏.‏ قال‏:‏ وهذا السّلاح كالسّيف، يتقلده الإِنسان، والخنجر يشده إِلى ذراعه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سجدوا‏}‏ يعني المصلين معه ‏{‏فليكونوا‏}‏ في المشار إِليهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم طائفة التي لم تصل، أُمرت أن تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المصلون معه أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس‏.‏

واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم‏:‏ إِذا أتموا مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا، وانصرفوا، وقد تمت صلاتهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ينصرفون عن ركعةٍ، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم‏:‏ إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم‏.‏ وقال آخرون منهم أبو حنيفة‏:‏ بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس وهم على صلاتهم، فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة‏.‏ واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم‏:‏ إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائِتة، ثم يسلّم بهم وقال آخرون‏:‏ بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم، وقال آخرون‏:‏ بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الذين صلوا أوّلاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم‏.‏ و«الجناح»‏:‏ الإِثم، وهو من‏:‏ جنحت‏:‏ إِذا عدلت عن المكان، وأخذت جانباً عن القصد‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم إِذا وضعتم أسلحتكم، لم تعدلوا عن الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كان بكم أذىً من مطرٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ رخّص لهم في وضع الأسلِحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال‏:‏ وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ يعني صلاة الخوف، و«قضيتم» بمعنى‏:‏ فرغتم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ في هذا الذكر قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الذكر لله في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا‏:‏ وهو التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الصلاة فيكون المعنى‏:‏ فصلوا قياماً، فان لم تستطيعوا فقعوداً، فان لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود‏.‏ وفي المراد بالطمأنينة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج، وأبي سليمان الدمشقي‏.‏

وفي إِقامة الصلاة قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إِتمامها، قاله مجاهد، وقتادة، والزجاج، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ أي‏:‏ فرضاً‏.‏ وفي «الموقوت» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد ابن أسلم، وابن قتيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ سبب نزولها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أُحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بِهِم من الجراحات، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى«تهنوا» تضعفوا، يقال‏:‏ وَهَنَ يهِنُ‏:‏ إذا ضَعُفَ، وكلُّ ضَعْفٍ فهو وَهْنٌ‏.‏ وابتغى القوم‏:‏ طلبهم بالحرب‏.‏ و«القوم» هاهنا‏:‏ الكفار ‏{‏إِن تكونوا تألمون‏}‏ أي‏:‏ توجَعون، فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون، وفي هذا الرجاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الأمل، قاله مقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو إِجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولم يُوجد الخوف بمعنى الرجاء إِلا ومعه جحد، ‏[‏فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك‏]‏ كقوله ‏{‏ما لكم لا ترجون لله وقاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏ وقوله ‏{‏لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ قال الشاعر‏:‏

لا ترتجي حين تلاقي الزائدا *** أسبعةً لاقَتْ معاً أم واحداً

وقال الهذلي‏:‏

إِذا لَسَعَتْه النَّحل لم يَرْجُ لَسْعَها *** وخالفها في بيت نُوْبٍ عَوامِلِ

ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى‏:‏ ترجون النصر وإِظهار دينكم والجنة‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ تخافون من عذاب الله ما لا يخافون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن طُعمة بن أبيرق سرق درعاً لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق يَنْتَشِرُ من خرق الجراب، حتى انتهى إِلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرعَ عند طُعمة، فلم توجد عنده، وحلف‏:‏ مالي بها علم، فقال أصحابها‏:‏ بلى والله، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال‏:‏ دفعَها إِليَّ طعمة، فقال قومُ طعمة‏:‏ إِنطلقوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء، فأتوه فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت هذه الآيات كلها‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن رجلاً من اليهود استودع طُعمة بن أبيرق درعاً، فخانها، فلما خاف اطلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي مُليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه أن يبرئه، ويكذّب اليهودي، فنزلت الآيات، هذا قول السدي، ومقاتل‏.‏

والثالث أن مشربة رفاعة بن زيدُ نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة بشير، ومبشّر، وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إِن أهل بيت منّا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمّي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال‏:‏ أنظرُ في ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إِن قتادة بن النعمان، وعمّه، عمدوا إِلى أهل بيت منّا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إِسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة‏:‏ رميتهم بالسرقة على غير بيّنة‏!‏ فنزلت هذه الآيات‏.‏ قاله قتادة بن النعمان‏.‏

والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والحق‏:‏ الحكم بالعدل‏.‏ ‏{‏لتحكم بين الناس‏}‏‏:‏ أي لتقضي بينهم‏.‏

وفي قوله ‏{‏بما أراك الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الذي علّمه، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إِلا ببرهان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما يؤدي إليه اجتهاده، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا تكن مخاصماً، ولا دافعاً عن خائن‏.‏ واختلفوا هل خاصم عنه أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه قام خطيباً فعذره‏.‏ رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه همَّ بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وهذه الآية تدلّ على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخاصم عن غيره في إِثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر الله‏}‏ في الذي أُمر بالاستغفار منه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه القيام بعذره‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العزم على ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسَهم‏}‏ أي‏:‏ يُخوِّنون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ والمراد بهم‏:‏ طُعمة بن أُبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه‏.‏ وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ انطلق نفرٌ من عشيرةِ طُعمة ليلاً إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إِن صاحبنا بريء‏.‏ و«الاستخفاء»‏:‏ الاستتار، والمعنى‏:‏ يستترون من الناس لئلاَّ يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم بالعلم‏.‏ وكلُّ ما فُكِّر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بُيّت‏.‏ وجمهور العلماء على أن المشار إِليه بالاستخفاء، والتبييت، قوم طعمة‏.‏

والذي بيّتوا‏:‏ احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو السارق نفسه، والذي بيّت أنه قال‏:‏ أرمي اليهودي بأنّه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهودي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «ها» للتنبيه، وأعيدت في أوله‏.‏ والمعنى‏:‏ ها أنتم الذين جادلتم‏.‏ و«المجادلة، والجدال»‏:‏ شدة المخاصمة، و«الجدل» شدّة الفتل‏.‏ والكلام يعود إلى مَن احتج عن السارق‏.‏ فأما قوله‏:‏ «عنهم» فانه عائِد إلى السارق‏.‏ و«عليهم» بمعنى «لهم»‏.‏ والوكيل‏:‏ القائم بأمر مَن وكله، فكأنه قال‏:‏ من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربهم‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت خطاباً للسارق، وعَرْضاً للتّوبة عليه‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه عنى بها كل مسيء ومُذنب‏.‏ ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وإِطلاقُها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب‏.‏ وفي هذا السوء ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه السرقة‏.‏

والثاني‏:‏ الشّرك‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كل ما يأثم به‏.‏ وفي هذا الظلم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه رمي البريء بالتُّهمة‏.‏

والثاني‏:‏ ما دون الشرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إِثماً‏}‏ أي‏:‏ ومن يعمل ذنباً ‏{‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ يقول‏:‏ إِنما يعود وباله عليه‏.‏ قاله مقاتل، وهذه في طُعمة أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئةً أو إِثماً‏}‏ جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق‏.‏ وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإِفك‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏خطيئةً أو إِثماً‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، و«الإِثم»‏:‏ سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، و«الإِثم»‏:‏ قذفه البريء، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و«الإثم»‏:‏ يختصّ العمد‏.‏ قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإِثم‏.‏

والرابع‏:‏ أنه لمّا سمى الله عز وجل بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إِثماً، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئاً، فقد احتمل بهتاناً، ذكره الزجاج أيضاً فأما قوله‏:‏

‏{‏ثم يرم به بريئاً‏}‏ أي‏:‏ يقذفُ بما جناه بريئاً منه‏.‏

فإن قيل‏:‏ الخطيئة والإِثم اثنان، فكيف قال‏:‏ به، فعنه أربعة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد‏:‏ ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إِعادته على الخطيئة، كقوله‏:‏ ‏{‏انفضّوا إِليها‏}‏ فخصّ التجارة، والمعنى للتجارة واللّهو‏.‏

والثاني‏:‏ أن الهاء تعودُ على الكسب، فلما دلّ ب «يكسب» على الكسب، كنى عنه‏.‏ والثالث‏:‏ أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم، كأنه قال‏:‏ ومَن يكسب ذنباً، ثم يرم به‏.‏ ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري‏.‏

والرابع‏:‏ أن الهاء تعود على الإِثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري‏.‏

وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كان يهودياً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين، وقتادة، وابن زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة‏:‏ زيد بن السُّمَير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان مسلماً، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل‏.‏ واختلفوا في ذلك المسلم، فقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ هو عائشة لما قذفها ابن أبيّ، وقال قتادة بن النعمان‏:‏ هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل‏:‏ هو أبو مُليل الأنصاري‏.‏ فأما البهتان‏:‏ فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه، يقال‏:‏ بهت الرجل‏:‏ إِذا تحيّر‏.‏ قال ابن السائب‏:‏ فقد احتمل بهتاناً برميه البريء، وإِثماً مبيناً بيمينه الكاذبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها متعلقة بقصة طُعمة وقومه، حيث لبَّسُوا على النبي صلى الله عليه وسلم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ جئناك نبايعك على أن لا نُحشرْ ولا نُعشرْ، وعلى أن تمتّعنا بالعزَّى سنةً، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك‏.‏

وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ النبوّة والعصمة‏.‏

والثاني‏:‏ الإِسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لولا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة، وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائِن؛ لهمّت طائفة منهم أن يُضِلُّوك‏.‏ قال الفرّاء‏:‏ والمعنى‏:‏ لقد همّت‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهَمَّت طائفة‏}‏ وقد همت باضلاله‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لولا فضل الله عليك ورحمته، لظهر تأثير ما همّوا به‏.‏ فأما الطائفة، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس‏:‏ قوم طعمة، وعلى رواية الضحاك‏:‏ وفد ثقيف‏.‏

وفي الإِضلال قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ التخطئة في الحكم‏.‏

والثاني‏:‏ الاستزلال عن الحق‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وما يضلُّون إِلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضّالين، فيرجع الضلال إِليهم‏.‏ فأما «الكتاب»، فهو القرآن‏.‏

وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ القضاء بالوحي، قالَه ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الحلال والحرام، قاله مقاتل

والثالث‏:‏ بيانُ ما في الكتاب، وإِلهام الصواب، وإِلقاء صحة الجواب في الرّوع، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان‏.‏

والثالث‏:‏ الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏ ثلاثة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه المنة بالإِيمان‏.‏

والثاني‏:‏ المنّة بالنبوّة، هذان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به، قاله أبو سليمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هُم قومُ طعمة، وقال مقاتل‏:‏ وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد‏:‏ هو عام في نجوى جميع الناس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى النجوى‏:‏ ما تنفردُ به الجماعة أو الاثنان، سِرَّاً كان أو ظاهراً‏.‏ ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة‏:‏ خلّصته وألقيته، يقال‏:‏ نجوت الجلد‏:‏ إِذا ألقيته عن البعير وغيره‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فقلتُ انجُوَا عنها نجا الجلد إِنّه *** سيرُضيكما منها سَنَامٌ وغارِبُهُ

وقد نجوت فلاناً‏:‏ إِذا استنكهته، قال الشاعر‏:‏

نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه *** كريحِ الكلب مات قديمَ عهد

وأصله كله من النَّجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلاً‏:‏

فَمَنْ بنجوَته كَمَن بعَقوَته *** والمُسْتكنُّ كَمَن يمشي بقِرْواح

والمراد بنجواهم‏:‏ ما يدبِّرونه بينهم من الكلام‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَن أمَر بصدقةٍ‏}‏، فيجوز أن يكون بمعنى‏:‏ إِلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، فيكون بمعنى‏:‏ لكن من أمر بصدقةٍ، ففي نجواهم خير‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏أمر بصدقةٍ‏}‏ فالمعنى حثّ عليها‏.‏

وأما المعروف، ففيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عام في جميع أفعال البر، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان الدمشقي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إِلى مكة، فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والسدي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السُلمي فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهباً، فخرج في الليل فنقب حائِط البيت، فعلموا به فأحاطوا البيت، فلما رأوه أرادوا، أن يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرّة بني سليم يعبُد صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وقال غيره‏:‏ بل خرج مع تجارٍ فسرق منهم شيئاً، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل‏:‏ ركب سفينةً، فسرق فيها مالاً، فعُلِمَ به، فألقي في البحر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن قوماً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم ارتدُّوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن عباس‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ومَن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، مِن بعد ما تبيّن له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نولِّه ما تولى، أي‏:‏ نكله إِلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنم‏:‏ ندخله إِياها‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ تقول صليت اللحم أصليه‏:‏ إِذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته، قلت‏:‏ أصليته‏.‏ وساءت مصيراً، أي‏:‏ مرجعاً يصار إِليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات على الشرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أن شيخاً من الأعراب جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ إني مُنهَمك في الذنوب، إِلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادمٌ مستغفرٌ، فما حالي‏؟‏ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس‏.‏ فأما تفسيرها، فقد تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إِلا إِناثاً‏}‏ «إِنْ» بمعنى‏:‏ «ما» و«يدعون» بمعنى‏:‏ يعبدون‏.‏ والهاء في «دونه» ترجع إلى الله عز وجل‏.‏ والقراءة المشهورة إِناثاً‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ إِلا وَثَناً، بفتح الواو، والثاء من غير ألف‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين‏:‏ أُنُثاً، برفع الهمزة والنون من غير ألف‏.‏ وقرأ أبو العالية، ومعاذ القارى، وأبو نُهيك‏:‏ أناثاً، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء‏.‏ وقرأ أبو السوار العدوي، وأبو شيخ الهنَّائي‏:‏ أوثاناً، بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء‏.‏ وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني‏:‏ إِلا أنثى، على وزن «فعلى»‏.‏ وقرأ أيوب السختياني‏:‏ إِلا وُثنا، برفع الواو والثاء من غير ألف‏.‏ وقرأ مورّق العجلي‏:‏ أُثُناً، برفع الهمزة والثاء من غير ألف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فمن قال‏:‏ إِناثاً، فهو جمع أنثى وإِناث، ومَن قال أنثاً، فهو جمع إِناث، ومن قال‏:‏ أُثنا، فهو جمع وثن، والأصل وُثنٌ، إِلا أن الواو إِذا انضمّت جاز إِبدالها همزة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا الرسل أقتت‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ الأصل‏:‏ وقتت‏.‏ وجائز أن يكون أُثُن أصلها‏:‏ أُثْن، فأتبعت الضمّةُ الضمةَ، وجائِز أن يكون أثن، مثل أَسَد وأُسْد‏.‏

فأما المفسرون، فلهم في معنى الإِناث أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الإِناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس، والحسن، في رواية، وقتادة‏.‏ قال الحسن‏:‏ كل شيء لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إِناث‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والموات كلها يخبر عنها، كما يخبر عن المؤنّث، تقول من ذلك‏:‏ الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعني‏.‏

والثاني‏:‏ أن الإِناث‏:‏ الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن الإِناث اللاّت والعُزّى ومناة، كلهن مؤنّث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد، والسدي‏.‏ وروى أبو رجاء عن الحسن قال‏:‏ لم يكن حيٌ من أحياء العرب إِلاّ ولهم صنم يسمّونه‏:‏ أُنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية‏.‏

قال الزجاج‏:‏ والمعنى‏:‏ ما يدعون إِلا ما يُسمّونه باسم الإِناث‏.‏

والرابع‏:‏ أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بناتُ الله، قاله الضحاك‏.‏

وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ شيطانٌ يكون في الصنم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم‏.‏ وقال أبيُّ بن كعب‏:‏ مع كل صنم جنيّة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِبليس‏.‏ وعبادته‏:‏ طاعته فيما سوّل لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي‏.‏ فأما «المريد»، فقال الزجاج‏:‏ «المريد»‏:‏ المارد، وهو الخارج عن الطاعة، ومعناه‏:‏ أنه قد مرد في الشّر، يقال‏:‏ مرد الرجل يمرُد مُروداً‏:‏ إِذا عتا، وخرج عن الطاعة‏.‏ وتأويل المرود‏:‏ أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وأصله في اللغة‏:‏ املساس الشيء، ومنه قيل للانسان‏:‏ أمرد‏:‏ إِذا لم يكن في وجهه شعر، وكذلك يقال‏:‏ شجرة مرداء‏:‏ إِذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء‏:‏ إِذا كانت ملساء‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لعنه الله‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ابتداء دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال‏:‏ هو الأوثان‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِخبار عن لعن متقدم، وهو قول من قال‏:‏ هو إِبليس‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ قد لعنه الله‏.‏ قاله ابن عباس‏:‏ معنى الكلام‏:‏ دحره الله، وأخرجه من الجنة‏.‏ وقال يعني إِبليس‏:‏ لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ حظاً افترضته لنفسي منهم فأُضلُّهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ النصيب المفروض‏:‏ أنَّ مِنْ كل ألفٍ إنسانٌ واحد في الجنة، وسائِرهم في النار قال الزجاج‏:‏ «الفرض» في اللغة‏:‏ القطع، و«الفُرضة»‏:‏ الثلمة تكون في النهر‏.‏ و«الفرض» في القوس‏:‏ الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله العباد‏:‏ جعله حتماً عليهم قاطعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عن سبيل الهدى، وقال غيره‏:‏ ليس له من الضلال سوى الدعاء إِليه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولأُمنينّهم‏}‏ أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس‏:‏ يقول لهم‏:‏ لا جنة، ولا نار، ولا بعث‏.‏

والثاني‏:‏ أنه التسويف بالتوبة، روي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه إيهامُهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليبتكن آذان الأنعام‏}‏ قال قتادة، وعكرمة، والسدي‏:‏ هو شق أذن البَحيرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى «يبتكن»‏:‏ يُشقّقن، يقال‏:‏ بتكت الشيء أبتكه بتكاً‏:‏ إِذا قطعته، وَبتَكه وبَتَك، مثل‏:‏ قطعه وقطع‏.‏ وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكراً، شقّوا أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تُطردْ عن ماءٍ، ولا مرعى، وإِذا لقيها المعيي، لم يركبها‏.‏ سوّل لهم إِبليس أن هذا قربةٌ إِلى الله تعالى‏.‏

وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، والنخعي، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ معنى تغيير الدّين‏:‏ تحليل الحرام، وتحريم الحلال‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مرويٌ عن أنس بن مالك‏.‏ وعن مجاهد، وقتادة، وعكرمة، كالقولين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية‏.‏

والرابع‏:‏ أنه تغيير أمر الله، رواه أبو شيبة عن عطاء‏.‏

والخامس‏:‏ أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرّموا من الأنعام، وإِنما خلق ذلك للانتفاع به، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله‏}‏ في المراد بالولي قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى الرب، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ فان قال قائل‏:‏ من أين لإِبليس العلم بالعواقب حتى قال‏:‏ ولأضلنّهم‏.‏ وقال في ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ وقال في ‏[‏بني إِسرائيل‏:‏ 62‏]‏‏:‏ ‏{‏لأحتنكنَّ ذريته إِلا قليلاً‏}‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه ظن ذلك، فتحقّق ظنه، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 20‏]‏ قاله الحسن، وابن زيد‏.‏

وفي سبب ذلك الظن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما قال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ علم أنه ينال ما يريد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لما استزلَّ آدم، قال‏:‏ ذرّية هذا أضعف منه‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ لأحرضنّ ولأجتهدنّ في ذلك، لا انه كان يعلم الغيب، قاله ابن الأنباري‏.‏

والثالث‏:‏ أن من الجائِز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماوردي‏.‏

فان قيل‏:‏ فلم اقتصر على بعضهم فقال‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏؛ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بينّا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لم ينلْ من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض‏.‏

والثالث‏:‏ انه لما عاين الجنّة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض إِلى ساكني النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم‏}‏ يعني‏:‏ الشيطان يعد أولياءه‏.‏ وفيما يعدهم به قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وفيما يُمنِّيهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ الغرور والأماني، مثل أن يقول‏:‏ سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك‏.‏

والثاني‏:‏ الظفر بأولياء الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 122‏]‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ أي‏:‏ باطلاً يغرُّهم به‏.‏ فأما المحيص، فقال الزجاج‏:‏ هو المعدِل والملجأ، يقال‏:‏ حِصتُ عن الرجل أحيص، ورووا‏:‏ جضتُ أجيض بالجيم والضاد، بمعنى‏:‏ حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإِن كان المعنى واحداً، لأن القراءة سنّة، والذي في القرآن أفصحُ مما يجوز، ويقال‏:‏ حُصتُ أحوص حوصاً وحياصة‏:‏ إِذا خطت، قال الأصمعي‏:‏ يقال‏:‏ حصْ عين صقرك، أي‏:‏ خط عينه، والحوصُ في العين‏:‏ ضيق مؤخرها، ويقال‏:‏ وقع في حيصَ بيصَ‏.‏ وحاص باص‏:‏ إِذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التوراة‏:‏ كتابنا خيرُ الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإِنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون‏:‏ كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية، ثم خيّر بين الأديان بقوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله‏}‏ رواه العوفي عن ابن عباس وإِلى هذا المعنى ذهب مسروق، وأبو صالح، وقتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن العرب قالت‏:‏ لا نُبعثُ، ولا نعذبُ، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش‏:‏ لا نُبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ اسم «ليس» مضمر، والمعنى‏:‏ ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم، وقد جرى ما يدل على الثواب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ وفي المشار إليهم بقوله «أمانيكم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسلمون على قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ المشركون على قول مجاهد‏.‏ فأما أماني المسلمين، فما نقل من قولهم‏:‏ كتابنا ناسخ للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، وأماني المشركين قولهم‏:‏ لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وإِن النار لا تمسُّنا إِلا أياماً معدودة، وإِنَّ كتابنا خيرُ الكتب، ونبينا خير الأنبياء، فأخبر الله عز وجل أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني‏.‏ وفي المراد «بالسوء» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه المعاصي، ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال‏:‏ يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية‏؟‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً يُجز به‏}‏ فإذا عملنا سوءاً جُزينا به فقال‏:‏ غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏؟‏ فذلك ما تُجزَون به‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير‏.‏ وفي هذا الجزاء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه عام في كل من عمل سوءاً فإنه يجازى به، وهو معنى قول أُبيِّ بن كعب، وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خاص في الكفار يجازَوْن بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى، قاله الحسن البصري‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ وعد الله المؤمنين أن يكفِّر عنهم سيآتهم، ولم يَعِد المشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجد له من دون الله ولياً‏}‏ قال أبو سليمان‏:‏ لا يجد مَن أراد الله أن يجزيه بشيءٍ من عمله ولياً وهو القريب، ولا ناصراً يمنعه من عذاب الله وجزائِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ قال مسروق‏:‏ لما نزلت ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب‏}‏ قال أهل الكتاب‏:‏ نحن وأنتم سواء، فنزلت ‏{‏ومن يعمل من الصالحات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهذه تدل على ارتباط الإِيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إِلاّ بوجود الآخر، وقد سبق ذكر «النقير»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خيّر الله بين الأديان بهذه الآية‏.‏ و«أسلم» بمعنى‏:‏ أخلص‏.‏ وفي «الوجه» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الدين‏.‏

والثاني‏:‏ العمل‏.‏ وفي الإحسان قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التوحيد، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي اتِّباع ملة إِبراهيم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ اتباعه على التوحيد والطاعة‏.‏

والثاني‏:‏ اتباع شريعته، اختاره القاضي أبو يعلى‏.‏ فأما الخليل، فقال ابن عباس‏:‏ الخليل‏:‏ الصفي، وقال غيره‏:‏ المصافي، وقال الزجاج‏:‏ هو المُحبُّ الذي ليس في محبّته خلل‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ الخليل‏:‏ الفقير، فجائِز أن يكون إبراهيم سُمّي خليل الله بأنه أحبّه محبةً كاملةً، وجائِز أن يكون لأنه لم يجعل فقرَه وفاقته إِلاّ إِليه، و«الخُلّة»‏:‏ الصداقة، لأن كلَّ واحد يسدُّ خلل صاحبه، و«الخَلة» بفتح الخاء‏:‏ الحاجة، سُميت خَلَّة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إِليه، وسمي الخَلّ الذي يؤكل خلاً، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الخليل‏:‏ فعيل من الخُلة، والخلّة‏:‏ المودّة‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الخليل‏:‏ المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل، والمعنى‏:‏ أنه كان يحبُ الله، ويحبهُ الله محبة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال‏:‏ الخليل‏:‏ الفقير، فالمعنى‏:‏ اتخذه فقيراً إِليه ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره‏.‏ وفي سبب اتخاذ الله له خليلاً ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه اتخذه خليلاً لإِطعامه الطعام، روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يا جبريل لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا‏؟‏ قال لإِطعامه الطعام ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن الناس أصابتهم سنَة فأقبلوا إِلى باب إِبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له مِيرَة من صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإِبل إِلى صديقه، فلم يعطهم شيئا فقالوا‏:‏ لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائِر رملاً، ثم أتوا إِبراهيم عليه السلام، فأعلموه، فاهتم إِبراهيم لأجل الخلق‏.‏ فنامَ وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كانا ففتحت الغرائر، فاذا دقيق حُواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إِبراهيم، فقال‏:‏ من أين هذا الطعام‏؟‏ فقالت‏:‏ من عند خليلك المصري، فقال‏:‏ بل من عند خليلي الله عز وجل، فيومئذٍ اتخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اتخذه خليلاً لكسره الأصنام، وجِداله قومه، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله بكل شيءٍ محيطاً‏}‏ أي‏:‏ أحاط علمه بكل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ في سبب نزولها خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة، شق ذلك عليهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أن ولي اليتيمة كان يتزوّجها إِذا كانت جميلةً وهَوِيَها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فاذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا لا يؤتون النساء صَدُقَاتِهِنَّ، ويتملَّك ذلك أولياؤهن، فلما نزل قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها‏.‏

والرابع‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت‏:‏ لا تفعل، واقسم لي في كل شهر إِن شئت أو أكثر، فقال‏:‏ لئن كان هذا يصلحُ، فهو أحبُ إِليّ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال‏:‏ «قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك»، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها ‏"‏، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أن ولي اليتيمة كان إِذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهن، أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويستفتونك‏}‏ أي‏:‏ يطلبون الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام‏.‏ وقيل‏:‏ الاستفتاء‏:‏ الاستخبار‏.‏ قال المفسّرون‏:‏ والذي اسْتَفْتَوه فيه‏.‏ ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا‏:‏ كيف ترث المرأة والصبي الصغير‏؟‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏ قال الزجاج‏:‏ موضع «ما» رفع، المعنى‏:‏ الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضاً يفتيكم فيهن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وفي يتامى النساء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهنّ النساء اليتامى، فأضيفت الصّفة إِلى الاسم، كما تقول‏:‏ يوم الجمعة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إِليهن أولادهن اليتامى‏.‏

وفي الذي كتب لهن قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الصداق‏.‏ ثم في المخاطب بهذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها‏.‏

والثاني‏:‏ ولي اليتيمة، كان إِذا تزوجها لم يعدل في صداقها‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول عائشة، وعبَيدة‏.‏

والثاني‏:‏ وترغبون عن نكاحِهن لقبحهنّ، فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ قال الزجاج‏:‏ موضع المستضعفين خفض على قوله‏:‏ ‏{‏وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء‏}‏ المعنى‏:‏ وفي الولدان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيراً من الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ قال الزجاج‏:‏ موضع «أن» خفض، فالمعنى‏:‏ في يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد العدل في مهورهن ومواريثهنَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً‏}‏ في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن سَودة خشيت أن يطلقها رسول لله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إِما كِبَراً، وإِما غيره، فأراد طلاقها، فقالت‏:‏ لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزهري عن سعيد بن المسيب‏.‏ قال مقاتل‏:‏ واسمها خويلة‏.‏

والثالث‏:‏ قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له‏:‏ لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من شأني‏.‏ رواه البخاري، ومسلم‏.‏

وفي خوف النشوز قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه العلم به عند ظهوره‏.‏

والثاني‏:‏ الحذر من وجوده لأماراته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والنشوز من بعل المرأة‏:‏ أن يُسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ نشوزاً، أي‏:‏ نبواً عنها إِلى غيرها، وإِعراضاً عنها، واشتغالاً بغيرها‏.‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر‏:‏ «يصّالحا بينهما» بفتح الياء، والتشديد‏.‏ والأصل‏:‏ «يتصالحا»، فأدغمت التاء في الصاد‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ «يُصلحا» بضم الياء، والتخفيف‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ أن يوقعا بينهما أمراً يرضيان به، وتدوم بينهم الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله‏.‏ وروي عن علي، وابن عباس‏:‏ أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ خيرٌ من النشوز والإِعراض، ذكره الماوردي‏.‏ قال قتادة‏:‏ متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فان أبتْ لم يصلح أن يحبسها على الخسف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُحضرت الأنفسُ الشحَّ‏}‏ «أحضرت»‏:‏ بمعنى‏:‏ ألزمت‏.‏ «والشح»‏:‏ الإِفراط في الحرص على الشيء‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ «الشح»‏:‏ البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على الأمر‏:‏ لا يريدان أن يفوتهما‏.‏ وفيمن يعود إِليه هذا الشح من الزوجين قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ المرأة، فتقديره‏:‏ وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ الزوجان جميعاً، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح عليها بنفسه إِذا كان غيرُها أحبَّ إِليه، هذا قول الزجاج‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئاً فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئاً من مالها، فتعطّفه عليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تحسنوا‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ بالصبر على التي يكرهها‏.‏

والثاني‏:‏ بالإِحسان إِليها في عشرتها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتقوا‏}‏ يعني الجور عليها ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ فيجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم ‏{‏ولو حرصتم‏}‏ على ذلك ‏{‏فلا تميلوا‏}‏ إِلى التي تحبون في النفقة والقسم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تتعمّدوا الإِساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس‏:‏ المعلقة‏:‏ التي لا هي أيِّم، ولا ذات بعل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعلقة‏:‏ المسجونة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تصلحوا‏}‏ أي‏:‏ بالعدل في القسمة ‏{‏وتتقوا‏}‏ الجور ‏{‏فان الله كان غفوراً‏}‏ لميل القلوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن يتفرّقا‏}‏ يقول‏:‏ وإِن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إِليها، واختارت الفرقة، فإن الله يغني كلَّ واحد من سعته‏.‏ قال ابن السائِب‏:‏ يغني المرأة برجل، والرجل بامرأة‏.‏ ثم ذكر ما يوجبُ الرغبة إِليه في طلب الخير، فقال‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصّينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني‏:‏ أهل التوراة، والإِنجيل، وسائِر الكتب ‏{‏وإِياكم‏}‏ يا أهل القرآن ‏{‏أن اتقوا الله‏}‏ قيل‏:‏ وحّدوه ‏{‏وإِن تكفروا‏}‏ بما أوصاكم به ‏{‏فإن لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ فلا يضرّه خلافكم‏.‏ وقيل‏:‏ له ما في السموات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم‏.‏ وقد ذكرنا في سورة ‏(‏البقرة‏)‏ معنى «الغني الحميد»، وفي ‏(‏آل عمران‏)‏ معنى «الوكيل»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يشأ يذهبكم أيها الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد المشركين والمنافقين ‏{‏ويأت بآخرين‏}‏ أطوع له منكم‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ هذا تهدّد للكفار، يقول‏:‏ إِن يشأ يهلككم كما أهلك مَن قبلكم إِذ كفروا به، وكذبوا رسله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا‏}‏ قيل‏:‏ إِن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدِّقون بالقيامة، وإِنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كان مشركو العرب يتقربون إِلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرّها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده‏.‏ وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا‏:‏ الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة‏:‏ الجنة‏.‏ قال‏:‏ والمراد بالآية‏:‏ حث المجاهد على قصد ثواب الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط‏}‏ في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن فقيراً وغنياً اختصما إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صَغْوُه مع الفقير يرى أن الفقير لا يَظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏ و«القوّام» مبالغة مِن قائِم‏.‏ و«القسط» العدل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الكلام‏:‏ قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإِن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه، ‏{‏إِن يكن‏}‏ المشهود له ‏{‏غنياً‏}‏ فالله أولى به، وإِن يكن ‏{‏فقيراً‏}‏ فالله أولى به‏.‏ فأما الشهادة على النفس، فهي إِقرار الإِنسان بما عليه من حق‏.‏ وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر المشهود عليه، ولا إِلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر إِليهما‏.‏ قال عطاء‏:‏ لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني، فتمسكوا عن القول فيه‏.‏ وممن قال‏:‏ إِن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله أن تعدِلوا عن الحق، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق‏.‏

والرابع‏:‏ فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تلووا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي‏:‏ تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة‏.‏

وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يلوي لسانه بغير الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها‏.‏ وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أن يلوي الحاكم وجهه إِلى بعض الخصوم، أو يُعرِضَ عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضاً عن أمر الله لكبره وعتوِّه‏.‏

ويكون‏:‏ «أو تعرضوا» بمعنى‏:‏ وتعرضوا، ذكره الماوردي‏.‏ وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر‏:‏ «تلوا» بواو واحدة، واللاّم مضمومة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام‏.‏